القانون




القانون مجموعة من القواعد والأسس التي تنظم مجتمعًا ما. ويُعد القانون واحدًا من بين أكثر النظم الاجتماعية الأساسية أهمية وضرورة. ولا يمكن لأي مجتمع أن يعيش إذا كان كل أفراده يفعلون مايروق لهم دون مراعاة لحقوق الآخرين، أو إذا كان أعضاؤه لا يعترفون بأن عليهم التزامات معينة في مواجهة بعضهم بعضًا. وهكذا، يقرر القانون القواعد التي تحدد حقوق أي شخص والتزاماته. ويضع القانون، أيضًا، الجزاءات التي توقع على من يخالف هذه القواعد، ويبين كيفية تطبيق الحكومة لتلك القواعد والجزاءات. وبالرغم من ذلك، يمكن للقواعد التي تطبقها الحكومة أن تتغير. ففي الواقع، تُعدل القوانين بصورة متكررة لكي تعكس المتغيرات التي تطرأ على حاجات المجتمع واتجاهاته.
وفي معظم المجتمعات، تضطلع أجهزة حكومية متعددة، وبخاصة أقسام الشرطة والمحاكم، بمهمة التأكد من إطاعة القوانين. ولأنه يمكن معاقبة أي شخص لعدم إطاعة القوانين، فإن معظم الناس تتفق على أن تكون القوانين عادلة. وتعد العدالة معيارًا أخلاقيًا ينطبق على كل أنماط السلوك الإنساني. وتنطوي القوانين التي تطبقها الحكومة على عناصر أخلاقية قوية. ولهذا، فإن العدالة، بوجه عام، من المبادئ الموجهة للقانون. لكن باستطاعة الحكومة تطبيق القوانين التي يعتقد كثيرٌ من الناس عدم عدالتها، وهي أحيانًا تطبقها بالفعل. وإذا ما أصبح هذا الأمر واسع الانتشار، فإن الناس قد يتخلوْن عن احترام وإطاعة القانون، وربما تعمدوا مخالفته. ولكن القانون نفسه في المجتمعات الديمقراطية، ينص على الوسائل التي يمكن استخدامها عند تعديل القوانين الجائرة أو إلغائها.
وتناقش هذه المقالة الفروع الرئيسية للقانون الوضعي والنظم القانونية الرئيسية في العالم، والوسائل التي تستخدمها الديمقراطيات في تعديل القوانين. وتقدم مقالات مستقلة في الموسوعة معلومات مفصلة حول الموضوعات المتصلة بالقانون. وللوقوف على قائمة بهذه المقالات، انظر: المقالات ذات الصلة في نهاية هذه المقالة. وللوقوف على الأحكام والقوانين الإسلامية المستمدة من الشريعة، انظر: الإسلام.

فروع القانون

يمكن تقسيم القانون إلى فرعين رئيسيين، هما: 1- القانون الخاص 2- القانون العام. ويُعنى القانون الخاص بتنظيم الحقوق والالتزامات التي تنشأ نتيجة علاقات أفراد المجتمع بعضهم ببعض. ويُعنى القانون العام بالحقوق والالتزامات التي تنشأ للناس بوصفهم أعضاء ومواطنين في المجتمع. ويمكن تقسيم كل من القانون الخاص والقانون العام إلى عدة أقسام فرعية. وبالرغم من ذلك، تتقارب الفروع المتعددة للقانون العام والقانون الخاص، وتتداخل في حالات كثيرة.
القانون الخاص. يحدد الحقوق والواجبات القانونية لأي شخص، فيما يتعلق بكثير من أنواع الأنشطة التي تربطه بأشخاصٍ آخرين. وتشتمل هذه الأنشطة على كل شيء تقريبًا مثل عمليات إقراض واقتراض النقود وشراء المنازل أو توقيع عقود العمل.
وتمضي الغالبية العظمى من المحامين والقضاة وقتها في نظر مسائل القانون الخاصّ. ويعالج المحامون أكثر هذه المسائل بعيدا عن المحكمة. لكن كثيرًا من الأوضاع تتطلب من القاضي أو هيئة المحكمة وجوب تحديد ما إذا كانت الحقوق التي يقرها القانون الخاص لشخص ما قد انتُهِكَت أم لا.
ويمكن تقسيم القانون الخاص إلى ستة فروع رئيسية، بحسب نوع الحقوق والالتزامات القانونية المتعلقة به، وهذه الفروع هي: 1- قانون العقود والتجارة، 2- قانون الضرر، 3- قانون الملكية، 4- قانون المواريث، 5- قانون الأحوال الشخصية، 6- قانون الشركات.
ورغم ذلك، فإن الخطوط الفاصلة بين هذه الفروع المتعددة ليست دائمًا واضحة. فعلى سبيل المثال يدخل كثير من حالات قانون الملكية ضمن اختصاص قانون العقود أيضًا.
قانون العقود والتجارة يُعنى بحقوق الأشخاص الذين يبرمون عقودًا والتزامات. والعقد هو اتفاق بين شخصين أو أكثر، يمكن تنفيذه بالقانون. وتعتمد طائفة متنوعة من الأنشطة والأعمال التجارية على استخدام العقود. فتُبرم الشركات التجارية عقودًا مع الشركات الأخرى، كشركات التوريد وشركات النقل، وكذلك مع الأشخاص العاديين، كالعملاء والمستخدمين.
الضرر مخالفة التزام قانوني من جانب شخص، يترتب عليه ضرر يصيب شخصا آخر. وقد يسبب الفعل إصابة بدنية للشخص، أو تلفًا لممتلكاته، أوخسارة لتجارته، أو مساسًا بسمعته، أو استعمالاً لأمواله دون إذنه. ويجوز للشخص المتضرر مقاضاة الشخص، أو الأشخاص الذين تسببوا في ضرره. ويختص قانون الضرر بحقوق الأشخاص المتورطين والتزاماتهم في مثل هذه القضايا. ويقع كثير من المخالفات المدنية دون قصد، كالتسبب في إحداث ضرر نتيجةً لحوادث المرور. غير أنه إذا كانت المخالفة المدنية عمديةً ونتج عنها ضررٌ جسيمٌ، فمن الجائز اعتبارها جريمة.
قانون الملكية قانون ينظم الملكية ومباشرة الحقوق التي تترتب عليها. والملكية قد تكون عقارية كالأرض والمباني، وقد تكون منقولة كالسيارة والملابس. وبالرغم من ذلك، يجب على المالك إدارة ممتلكاته بطريقة مشروعة. وللأفراد أيضًا، حق بيع ممتلكاتهم أو تأجيرها أو التنازل عنها، كما أن لهم حق شراء ممتلكات الآخرين واستئجارها. ويحدد قانون الملكية الحقوق والالتزامات المتعلقة بمثل هذه المعاملات.
قانون الميراث أو قانون التركات يُعْنَى بانتقال الأموال عند موت أصحابها. ولكل دولة، تقريبًا، قوانين رئيسية تختص بالميراث، وتضع قائمة بالورثة من الأقارب أو خلافهم الذين يكون لهم حق الميراث. غير أنه يجوز للأفراد في معظم الدول الغربية الوصية بأموالهم لأشخاص آخرين خلاف الذين حددهم القانون، وفي مثل هذه الحالات أيضًا، يضع قانون المواريث القواعد التي تنظم عملية تحرير الوصايا.
وقد حددت الشريعة الإسلامية، في مصادرها الأساسية القرآن والسنة واجتهادات فقهائها، قواعد الميراث في المجتمعات الإسلامية، وبينّت نصيب كل وارث حسب حالته من حيث درجة قرابته للمورّث، ومن حيث نوعه ذكرًا أو أنثى. انظر: المواريث.
قانون الأحوال الشخصية يحدد الحقوق القانونية والالتزامات الخاصة بالأزواج والزوجات، والأبوين والأبناء. ويعالج موضوعات مثل: الزواج، والطلاق، والتبني، وإعالة الأبناء. انظر: الإسلام؛ الطلاق.
قانون الشركات ينظم إنشاء المؤسسات والشركات التجارية وإدارتها. ويختص أساسًا بتنظيم سلطات ومسؤوليات إدارة الشركات وحقوق المساهمين. وكثيراً ما يُصنَّف قانون الشركات مع قانون العقود والتجارة تحت اسم واحـد هـــــو قانون الأعمال التجارية.
القانون العام. يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالحكومة. ويحدد القانون العام حقوق أي شخص والتزاماته تجاه الحكومة، ويقرر، أيضا، الأقسام المختلفة للحكومة ويبين اختصاصاتها.
يمكن تقسيم القانون العام إلى أربعة فروع، هي: 1- القانون الجنائي، 2- القانون الدستوري، 3- القانون الإداري، 4- القانون الدولي.
وفي كثير من الأحوال، تتداخل فروع القانون العام، كما هو الحال بالنسبة لفروع القانون الخاص. فعلى سبيل المثال، قد تشكِّل مخالفة القانون الإداري مخالفة للقانون الجنائي أيضًا.
القانون الجنائي يختص بالجرائم، أي الأفعال التي تُعَدُّ ضارة بالمجتمع. وتتفاوت الجرائم من حيث الخطورة مابين مجرد السلوك المخل بالنظام والقتل العمد. ويحدد القانون الجنائي هذه الجرائم، ويضع القواعد الخاصة بالقبض على المجرمين، وإمكان محاكمتهم، وعقوبات المذنبين. ويسمى القانون غير الجنائي القانون المدني، بالرغم من أن لذلك معنًى آخرَ ستتم مناقشته لاحقًا. إلا أن بعض الجرائم تُعد أيضًا ضررًا، يجوز للمتضرر فيها المطالبة بتعويض وفقًا للقانون المدني.
تتولى الحكومة المركزية في غالبية الدول إصدار معظم القوانين الجنائية. وفي بعض الدول، كأستراليا والولايات المتحدة، لكل ولاية، مثلما للحكومة الاتحادية، مجموعة قوانينها الجنائية. وبالرغم من ذلك، يجب أن تحمي القوانين الجنائية لكل ولاية الحقوق والحريات التي يضمنها القانون الدستوري الاتحادي.
القانون الدستوري. الدستور مجموعة من القواعد والمبادئ التي تحدد سلطات الحكومة وحقوق الشعب. وتشكل المبادئ المقررة في أي دستور الأساس الذي يقوم عليه القانون الدستوري. ويشتمل القانون، كذلك، على قرارات رسمية حول كيفية تفسير مبادئ الدستور وتنفيذها.
ولدى معظم الأمم دساتير مكتوبة. وتُعد بريطانيا الاستثناء الأهم من هذه الناحية. فالدستور البريطاني دستورٌ غير مكتوب. وهو يشتمل على كل الوثائق والتقاليد التي أسهمت في صياغة نمط الحكومة البريطانية. ويتبوأ الدستور الوطني في معظم الديمقراطيات مكانًا يسمو به على جميع القوانين الأخرى. ويوضح الدستور كيفية تسوية التعارض بين أحكامه وأحكام القوانين الأخرى. وللمحاكم في كثير من الدول سلطة الرقابة على دستورية القوانين التي يجوز لها بموجبها إلغاء أية قوانين تخالف الدستور فتقضي بعدم دستوريتها.
القانون الإداري تتمثل أهميته في تسيير مرافق الحكومة ويعد أكثر فروع القانون تعقيدًا.
تنشئ الحكومات كثيرًا من المرافق الإدارية لكي تضطلع بعمل الحكومة. وتختص المرافق بأعمال، مثل: التربية والتعليم، والصحة العامة، والضرائب. وتوفر مرافق أخرى متطلبات الرعاية الاجتماعية، كمعاشات التقاعد والضمان الاجتماعي. وفي معظم الحالات، تقام المرافق كجزء مكمل للجانب التنفيذي بموجب اختصاصات تمنحها السلطة التشريعية. ويتكون القانون الإداري أساسًا من: 1- الاختصاصات القانونية التي تمنحها السلطة التشريعية للمرافق الإدارية، و 2- القواعد التي تقررها المرافق لتنفيذ اختصاصاتها. ويشمل القانون الإداري أيضًا، قرارات المحاكم الصادرة بشأن القضايا المقامة بين المرافق والمواطنين العاديين.
القانون الدولي يختص بتنظيم العلاقات التي تنشأ بين الدول، سواء في وقت الحرب أو السلم. وهو يُعنى بالتجارة، والاتصالات، ومنازعات الحدود، ووسائل القتال، واستخدامات المحيطات، ومسائل أخرى كثيرة. ولكي تصبح القوانين قادرة على تنظيم العلاقات الدولية، فقد طُوِّرت عبر القرون بطريق العرف والمعاهدات. غير أن القانون الدولي، خلافًا لفروع القانون الأخرى، يصعب تطبيقه.

فروع القانون
يحُصي هذا الجدول الفروع الرئيسية للقانون الخاص والقانون العام، وبعض الموضوعات القانونية التي تدخل في دائرة اختصاصها. والموضوع الذي قد يختص به فرع، قد يختص به أيضاً فرع أو أكثر من الفروع الأخرى. فمثلاً، كثير من الموضوعات التي يُُعنى بها قانون الملكية قد يُعنى بها أيضاً قانون العقود.

القانــون الخــاص
قانـون العـقود والتجارة قانـون الضـرر قانـون الأحـوال الشخصية
مشتريات آجلة الدفع الإزعاج التــبــــني
وثائق التأمين السب والتشهير حضانة الأطفال
براءات الاختراع الإصابة الشخصية الطـــــلاق
عقود العمل التقصير المهني بطلان الزواج
أذونات سندية التهاون الـــــزواج
عقود البيع المسؤولية عن المنتج  
الضمانات حوادث المرور  
الاكتتاب التعدي  
قانون الملكية قانون المواريث قانون الشركات
العـلاقـة بين مـــالك الأملاك مالية الشركة
الأرض والمستأجر إثبات الوصايا نظام الشركة
الرهون العقارية الأمانات اندماج الشركات
نقل الملكية الوصايا وتملكها
ممتلكات بلا مالك    
القانــون العـام
القانون الجنائي القانون الدولي
الحرق المتعمد الرقابة على التسلح
التزوير حقوق الإنسان
الاختطاف المياه الإقليميـة
الرشوة تسليم المتهم الفار
القتل الخطأ استخدامــــات
القتل الفضاء الخارجي
السطو استخدام المحيطات
الحنث بالقسم جرائــم الحرب
الاغتصاب خطف الطائرات
جريمة السرقة والقرصنة البحرية
الابتزاز  
السرقة بالتهديد  
القانون الدستوري القانـــون الإداري
الحقوق المدنية حماية المستهلك
سلطات الحكومة الرعاية الاجتماعية
الفصل بين السلطات: جباية الضرائب
التنفيذية، والقضائية، حماية البيئة
والتشريعية السلامة العامة
أجور العاملين  
وساعات العمل  

النظم القانونية

لكل دولة مستقلة نظامها القانوني. وتختلف هذه النظم باختلاف التقاليد الاجتماعية، وشكل الحكومة في كل دولة. غير أنه يمكن أن تصنف معظم النظم إما على أساس أنها: 1- نظم القانون العرفي، وإما على أساس أنها 2- نظم القانون المدني. وتطبق أستراليا، وأيرلندا، ونيوزيلندا، وبريطانيا ـ باستثناء أسكتلندا ـ والولايات المتحدة، ودول أخرى ناطقة بالإنجليزية، نظام القانون العرفي. أما معظم الدول الأخرى، فتطبق نظام القانون المدني. وقد جمعت كثير من الدول بين خصائص كل من النظامين.
نظم القانون العرفي. ترتكـــز إلى حد كبير على أساس قانون السابقة القضائية؛ أي على قرارات المحاكم. وقد ظهر نظام القانون العرفي في إنجلترا منذ مئات السنين. وسمى الإنجليز نظامهم اسم القانون العرفي؛ لأنه كان مطبقًا في جميع أرجاء البلاد.
وتطور القانون العرفي الإنجليزي من واقع القواعد والمبادئ التي كان القضاة يتقيدون بها تقليديًا عند فصلهم في القضايا أمام المحاكم. فكان القضاة يؤسسون أحكامهم على السوابق القضائية أي على قرارات المحاكم السابقة الصادرة في قضايا مشابهة. غير أنه كان باستطاعة القضاة توسيع نطاق السوابق القضائية على نحوٍ يناسب قضايا بعينها. وكان باستطاعتهم، أيضًا، نقض، أي رفض، أية سوابق قضائية يعدونها قائمة على خطأ أوتجاوزها الزمن. وبهذه الطريقة، تمكن القضاة من تعديل كثير من القوانين على مَرِّ السنين، فأصبح القانون العرفي، قانونًا من صنع القضاة.
ورغم ما تقدم، فقد أثبتت بعض مبادئ القانون العرفي أهميتها القصوى، فاستعصت على التعديل. من ذلك مثلاً: السلسلة الطويلة من السوابق القضائية التي كانت تدافع عن حقوق المواطنين وحرياتهم في مواجهة مباشرة سلطات الحكومة بصورة غير عادلة. وقد حافظت إنجلترا، والدول الأخرى التي طبقت نظام القانون العرفي، على هذه المبادئ غالبًا دون تغيير. وأرست أستراليا، وكندا، ونيوزيلندا، والولايات المتحدة، ودول أخرى كانت خاضعة للاستعمار البريطاني، نظمها القانونية على أساس القانون العرفي.
ومازال نظام السابقة القضائية من النظم المهمة في الدول التي تأخذ بنظام القانون العرفي. وبالرغم من ذلك، تزايد دور السلطة التشريعية في إصدار القوانين في تلك الدول تزايدًا كبيرًا خلال القرن العشرين. وقد نجم عن ذلك تعديلات مسَّت موضوعات مثل: العلاقات بين المستخدمين والإدارة، وأجور العاملين وساعات العمل، وحماية البيئة. وعلى رغم ذلك، فقد حافظت الدول التي تطبق القانون العرفي على الملامح الرئيسية للنظام القانوني الإنجليزي، أي النظام الذي يعترف للقضاة بسلطة عمل إصدار القوانين. وفضلاً عما تقدم، ساير القانون الدستوري في هذه الدول التقليد الذي سنه القانون العرفي بشأن الدفاع عن حقوق الأفراد وحرياتهم.
نظم القانون المدني. ترتكز أساسًا على التشريع أي الأعمال التشريعية. وقد جمعت غالبية الدول التي تأخذ بنظام القانون المدني قوانينها التشريعية في مجموعة أو أكثر من المجموعات التي نُظِّمت بعناية وأطلــق عليها اسم المدوّنات أو مجموعات القوانين. ويمكن إرجاع أصول معظم مجموعات القوانين الحديثة إلى المجموعة الشهيرة التي أمر الإمبراطور الروماني جستنيان بإعدادها في القرن السادس الميلادي. وقد تولت مدونة جستنيان تحديث جميع القوانين الرومانية وتلخيصها. وكانت تسمى كُوْرْبَسْ جُوْرِسْ سِيْفِيلِيسْ، ومعناها مجموعة القانون المدني. ولهذا السبب عُرفت النظم القانونية التي استنبطت أحكامها من القانون الروماني القـــائـــم على التشريع والتقنين باسم نظـم القانون المدني، ويتعين عدم الخلط بين هذا الاستعمال لمصطلح القانون المدني واستعماله للتمييز بينه وبين مصطلح القانون الجنائي.
وفي الدول التي تطبق نظام القانون المدني، كفرنسا، وألمانيا، والمكسيك، وكذلك معظم الدول العربية والإسلامية يقدِّم التشريع، وليس المحاكم، الإجابة الفاصلة لأية مسألة من مسائل القانون. ومن الجائز للقضاة الإشارة إلى السوابق القضائية عند إصدار قراراتهم. لكن يجب عليهم تأسيس أي قرار يصدرونه على تشريع محدد وليس على السابقة القضائية وحدها.
وتصدر القوانين في الدول العربية والإسلامية بصفة عامة، وفي المملكة العربية السعودية بصفة خاصة على أساس الشريعة الإسلامية ابتداءً فيما عليه نص، وبناء ما ليس عليه نص وفقًا لأرجح الآراء الفقهية، مع حفظ الثوابت، وتطوير المتغيرات مع اختلاف الزمان والمكان.
نظم أخرى. صاغت كثير من الدول نظمها القانونية على منوال نظام القانون المدني ونظام القانون العرفي كليهما. فمثلاً جمعت اليابان ومعظم دول أمريكا اللاتينية كل قوانينها الخاصة في تقنين واحد. غير أن القانون العام، في هذه الدول تأثر تأثرًا كبيرًا بمبادئ القانون العرفي، وبخاصة تلك المبادئ التي تضمن حقوق الشعب وحرياته.
وقد ألغت معظم الحكومات الشيوعية النظم القانونية التي كانت قائمة عند توليها السلطة. وكانت غالبية هذه النظم تأخذ بنظام القانون المدني. وقد أقامت الحكومات الشيوعية، وقتئذ، نظمًا قانونيةً تستند، أيضًا، إلى تشريعات وتقنينات. فالاتحاد السوفييتي (سابقا) ودول الكومنولث الروسي التي استقلت عنه حاليًا مثلاً لديها مدونة قانون خاص ترتكز على نماذج أوروبية غربية وروسية سابقة. ولكن خلافًا للتقنينات السابقة، أباحت المدونة السوفييتية تدخل الحكومة المباشر في مسائل القانون الخاص. ورغم ذلك، ركّزت الإصلاحات القانونية في تلك الدول في أواخر ثمانينيات القرن العشرين على تقوية حقوق الفرد، والحد من سلطة الدولة ومطالبها.

كيفية تعديل القوانين


يوجب تغيير الأحوال الاجتماعية بشكلٍ مستمر تغيير القانون أيضًا، وإلا صار مهجورًا. وتعمل كل أمة على تعديل قوانينها بالطريقة التي يحددها نظامها السياسي. ففي نظام مستبد، يمكن فقط للزعماء الذين يتسنَّمون قمة السلطة تعديل القانون. ومن ناحية أخرى طوَّرت الديمقراطيات أربع وسائل رئيسية لتعديل القانون، وهي: 1- بقرار المحكمة، 2- بطريق التشريع، 3- بإجراء إداري، 4- بإجراء مباشر من الشعب.
بقرار المحكمة. في الدول التي تطبق القانون العرفي، يعدِّل القضاة القوانين بتوسيع نطاق السوابق القضائية أو بإلغائها. ورغم ذلك، لا يمكن إلغاء السابقة القضائية عادة إلا بوساطة محكمة أعلى. وإذا لم تَرُق لحكومة ما الطريقة التي سلكتها إحدى المحاكم في تفسير القانون، فإنه يمكنها تعديل هذا القانون بطريق التشريع.

بطريق التشريع. يجوز للسلطات التشريعية تعديل القوانين مثلما يجوز لها إصدارها. وتستطيع السلطة التشريعية تغيير قانون تشريعي بتعديله، أو إلغائه، أو بإجازة قانون جديد في الموضوع نفسه. وفي معظم الدول التي لديها دستور مكتوب، يستلزم تعديل هذا الدستور اتخاذ إجراء تشريعي من نوع خاص.
بإجراء إداري. يجوز تفويض مرافق الحكومة بإصدار لوائح، أو تعديلها، أو إلغائها، أو استبدالها. وتُعرف هذه اللوائح باسم التشريع بالتفويض
بإجراء مباشر من الشعب. تمنح بعض الحكومات القومية وكثيرٌ من الحكومات المحلية الشعب سلطة مباشرة لتعديل القانون بطريق الاستفتاء العام وبطريق الاقتراح. وفي حالة الاستفتاء العام، يُعرض القانون أو مشروع القانون على المقترعين لأخذ رأيهم فيه بالموافقة أو بالرفض. أما في حالة الاقتراح، فإن مجموعة من المواطنين تُعدُّ مشروع قانون ثم ترفعه إلى السلطة التشريعية أو تطرحه على استفتاء عام. وللسلطة التشريعية أو المطروح عليهم الاستفتاء، حينئذ، الموافقة عليه أو رفضه. وقد ألغت كثير من الدول دساتيرها مرة أو أكثر من مرة، واستبدلت بها دساتير أخرى جديدة. وفي معظم هذه الحالات، لا يُعمل بالدستور الجديد إلا بعد الموافقة عليه في استفتاء عام.

تطور القانون

المجتمعات المتحضرة شديدة التعقيد إلى الحد الذي لا تستطيع فيه البقاء، مالم يكن لديها نظام قانوني متطور. لذلك، استنتج العلماء أن الناس كانوا قد شرعوا في صياغة القوانين في عصور ما قبل التاريخ، وقبل نشوء الحضارات الأولى. ولم يكن للناس في عصور ما قبل التاريخ نظامٌ للكتابة، ولذا لم يتركوا مدونات لقوانينهم. فقد كانت القوانين الأولى قوانين عرفية، أي قوانين نشأت عن طريق العرف، وانتقلت من جيل إلى جيل بصورة شفوية.
ظهرت الحضارات ونظم الكتابة الأولى في الفترة مابين 3500 و 3000 ق.م تقريبًا. وقد مكّن اختراع الكتابة الناس من تجميع المدونات أو المجموعات القانونية. وكان من نتيجة تطور المدونات المكتوبة أن أصبح القانون أمرًا معلومًا لدى الجميع، مما ساعد على ترسيخ حكم القانون في المجتمع. وأُنشِئت أولى المدونات القانونية بمنطقة الشرق الأوسط في كنف الحضارات القديمة.
التطورات الأولى في الشرق. ظهرت أولى المدونات القانونية المعروفة في بلاد بابل بأرض العراق. وقد جمع أحد ملوك بابل، ويدعى أُوْر نامُو، في حوالي سنة 2100ق.م، أقدم مجموعات القوانين المعروفة. وأنشأ حكام بابليون آخرون مجموعات خلال القرون التالية. وصاغ الملك حَمُوْرَابِي، خلال القرن الثامن عشر قبل الميلاد أكثر هذه المدونات أو المجموعات القانونية شهرةً واكتمالاً. وشأنها شأن المدونات الأولى التي سبقتها، حَوَت قائمة طويلة بالقواعد التي تفصل في نوع محدد من القضايا. فقد تضمنت أحكامًا تختص بمسائل، مثل: عدم وفاء الزوجة، وسرقة حيوان من مزرعة، وإقامة البناء لمنزل بطريقةً معيبة. وكان كثير من العقوبات قاسيًا إذا قيس بالمعايير السائدة في عالم اليوم. فمثلاً،كانت تقطع يد الابن إذا أُدين بضرب والده.
وبحلول عام 500ق.م. تقريبًا، أنشأت حضارتا الهند والصين مجموعات قانونية أيضا. وقد ركزت المجموعات في كلا البلدين على الالتزامات الأخلاقية للقانون. وبالرغم من ذلك، لم يكن للموروثات القانونية للحضارات الشرقية سوى تأثير ضئيل مباشر في النظم القانونية الكبرى في الوقت الحاضر. ومازال كثير من الشعوب الشرقية، وحتى من تأثر منها بالتقاليد الغربية، يركز على الالتزامات الأخلاقية للقانون. فلدى الأشخاص المتهمين فرصة محدودة في الدفاع عن أنفسهم. ويرى معظم المفكرين أن قدماء الإغريق هم الذين وضعوا اللبنات الأولى لصرح القانون الغربي والحضارة الغربية.
تأثيرات بلاد الإغريق القديمة. خلافًا للحضارات التي سبقتها، تمكنت حضارة بلاد الإغريق القديمة من صياغة القانون كنظام ذي ملامح إنسانية واضحة. فقبل عصر الإغريق، كان أكثر الناس يزعمون أن الآلهة والإلاهات وحدهم هم الذين يملكون سلطة إصدار القوانين، وأنهم سلموا القوانين لطائفة مختارة من الزعماء، وقد سلم أولئك الزعماء تلك القوانين إلى الشعب. وكغيرهم من الشعوب السابقة، زعم قدماء الإغريق أن الآلهة والإلاهات أوجبوا على البشر إطاعة القوانين. غير أن الإغريق كانوا يعتقدون، أيضًا، أن البشر يمتلكون سلطة إصدار القوانين وتعديلها عند الحاجة. وقد أصبحت الدولة ـ المدينة في أثينا المركز الرئيسي لهذا التطور.
وضع سياسي يدعى دراكو في سنة 621ق.م أول مجموعة قوانين في أثينا. واشتهرت هذه المجموعة على وجه الخصوص، بجزاءاتها القاسية التي كانت توقع على من يخالفون أحكامًا. وفي سنة 590ق.م، أصدر المجلس الحاكم في أثينا تفويضًا لموظف رفيع المستوى، يُسمى سولون، لإجراء إصلاحات في النظم القانونية والسياسية للمدينة. فألغى سولون معظم قوانين دراكو الصارمة واستبدل بها مجموعة قوانين أكثر عدلاً.كذلك، جعل سولون الجمعية الأثينية أكثر تمثيلاً، وزاد من سلطاتها في إصدار القوانين. وفي الوقت المناسب، اكتسبت جمعيات المواطنين المنتخبة سلطة تشريعية أكثر فأكثر في أثينا. وبذلك، يكون الإغريق قد أحدثوا تطورًا مهمًَّا آخر في الحضارة الغربية، ونقصد به إرساء دعائم الحكومة الديمقراطية. وبالرغم من ذلك فقد كان ثلث سكان أثينا من المستعبدين. وكغيرهم من الشعوب القديمة الأخرى، أنكر الإغريق على المستعبدين التمتع بالحقوق القانونية المقررة للمواطنين.
كان الإغريق يعتقدون اعتقادًا قويًا بأهمية القانون. فقد كانوا ينظرون إلى من يحترم القانون نظرتهم إلى المواطن الصالح. وقد أضحى الفيلسوف والمعلم الأثيني سقراط مثالاً رائعًا على هذا الاعتقاد. فقد قضت المحكمة على سقراط بالإعدام في سنة 399ق.م. بتهمة إلقاء دروس على الشباب الأثيني تحضهم على عدم احترام القانون.كان سقراط يعلم أنه بريء، ولكنه قَبِلَ بالعقوبة الصادرة ضده ليظهر احترامه للقانون.
القانون الروماني القديم. بلغ القانون القديم قمة تطوره في عهد الرومان. فقد ضم القانون الروماني كل الفروع الرئيسية للقانون العام والقانون الخاص بصورتها الموجودة في الوقت الحاضر. وفي الواقع، بدأ التصنيف العلمي للقانون مع عهد الرومان. فالرومان صاغوا قوانينهم ليس فقط لحكم شعب روما، ولكن أيضًا لبناء إمبراطورية شاسعة متماسكة وللسيطرة عليها. فعند بداية القرن الثاني الميلادي،كانت الإمبراطورية الرومانية تضم الجانب الأكبر من أوروبا، ومنطقة الشرق الأوسط، ومعظم مناطق إفريقيا الشمالية.
العصور الرومانية القديمة.كُتِبت مجموعة القوانين الرومانية الأولى التي كانت تعرف باسم قانون الألواح الاثني عشر في حوالي سنة 450ق.م. وتولى قانون الألواح الاثني عشر تدوين القوانين العرفية للشعب الروماني في صيغة يسهل استيعابها. ولمئات السنين، كان على صبية الرومان حفظ مجموعة القوانين عن ظهر قلب جزءًا من واجباتهم المدرسية.
ولقد ظلت المبادئ المنصوص عليها في قانون الألواح الاثني عشر تشكل أساس القانون الروماني لأمدٍ طويلٍ.
لكن الرومان أخذوا يعدلون في هذه المبادئ القانونية بصورة تدريجية حتى تواكب الأحوال الاجتماعية المتغيرة. فبعد سنة 367ق.م، تولى إجراء التعديلات الجوهرية موظف عام ذو منصب قانوني رفيع يُسمى كبير قضاة البلدية (الربتور). فكان يصدر كل سنة مرسومًا (أمرًا عامًا) يجري بموجبه أية تعديلات ضرورية. وأصبح باستطاعة الإمبراطور الروماني، بعد سنة 27ق.م، إصدار القوانين وتعديلها حسب رغبته. وفي نهاية المطاف، صارت مجموعة القانون الروماني بكاملها شديدة التعقيد. وقد أُسندت مهمة تفسير هذه المجموعة الضخمة من القوانين لطائفة من رجال القانون ذوي المهارة الفائقة، يُطلق عليهم اسم يعني في أصله اللاتيني خبراء القانون.
ولسنوات عديدة،كان الرومان وغير الرومان، داخل حدود الإمبراطورية، يخضعون لمجموعات مختلفة من القوانين، وكان المواطنون الرومان يخضعون للقانون المدني. وقد طوّر الرومــان مجموعــة قوانـــين خاصـة كانت تُسمى قانون الشعوب، أو قانون الأمم، لحكم الشعوب التي أخضعوها. وأقاموا هذا القانون على مبادئ العدالة التي كانوا يعتقدون أنها حق جميع بني البشر، وتعرف هذه المبادئ باسم القانون الطبيعي.
وبالرغم من ذلك، لم يمنح كل من القانون المدني وقانون الشعوب المستعبدة أية حقوق قانونية. فطبقًا للقانون الروماني، يمكن للمواطنين الرومانيين وحدهم تملك الأموال، وإبرام العقود وتحرير الوصايا، والمقاضاة للحصول على تعويض عن الأضرار. ولأن المستعبدين لم يكونوا مواطنين، فإنهم لم يظفروا بشيء من هذه الحقوق. وحيث أن الرومان كانوا قد طوروا فكرة القانون الطبيعي، فإنهم، على الرغم مما تقدم اعترفوا للمستعبدين بحقوق الإنسان، وأوجبوا احترام هذه الحقوق. ونتيجة لذلك، تطلَّب القانون الروماني معاملة المستعبدين بعدل ورحمة.
العصور الرومانية المتأخرة. أدى الاعتقاد في القانون الطبيعي، إلى الاعتقاد، كذلك، في حق غير الرومان في التمتع بذات الحقوق التي يتمتع بها المواطنون. فقد منح الرومان، في سنة 212م، حقوق المواطنة الرومانية لمعظم الشعوب التي أخضعوها، فيما عدا المستعبدين. وبذلك، أصبح القانون المدني قانون الإمبراطورية بكاملها. وعلى الرغم من ذلك، ظلت مبادئ القانون الطبيعي المضمنة في قانون الشعوب تمثل جزءًا من القانون الروماني. وكانت هذه المبادئ أمرًا مهما لأجيال المستقبل، لأنها قادت إلى الإيمان بالحقوق المتساوية لكل المواطنين. غير أنه مرت مئات السنين قبل أن يفلح الناس تمامًا في تطوير مبادئ المساواة التي وضعها الرومان. وما أن تطورت هذه المبادئ، حتى أسهمت في بناء الحكومات الديمقراطية في أستراليا، وفرنسا، ونيوزيلندا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وفي كثير من الدول الأخرى. ومع ذلك فإنها مازالت وستظل قوانين بشرية قاصرة لا ترقى ولا تقترب من القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية المنزلة من عند الله.
وبدايةً من يوليوس قيصر، حاول حكام رومانيون متتابعون في سلسلة طويلة ترتيب قوانين الإمبراطورية كافة في مدونة منظمة. وقد أكمل الإمبراطور جستنيان الأول هذه المهمة في النهاية. وبــدأت مدونة جستنيان التي اشتـهرت باسم كُوْرْبَسْ جُوْرِسْ سِيفِيلِيس، أي مجموعة القانون المدني، بالسريان في سنة 533 وسنة 534م. وقد شملت كل مجالات القانون بصورة متكاملة ومتقنة إلى الحد الذي جعل منها، في وقت لاحق، نموذجًا احتذته أول تقنينات حديثة. وحتى اليوم، تنهض تقنينات معظم الدول التي تطبق نظام القانون المدني على أساس القانون الروماني.

العصور الوسطى

انشطرت الإمبراطورية الرومانية في سنة 395م إلى قسمين هما: الإمبراطورية الرومانية الغربية، والإمبراطورية الرومانية الشرقية، أو الإمبراطورية البيزنطية. وقد سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية، التي كانت روما عاصمتها، في أيدي القبائل الجرمانية الغازية في أواخر القرن الخامس الميلادي. وحَدَّدت واقعة سقوط الإمبراطورية بداية فترة الألف سنة التي عُرفت بالعصور الوسطى. وقد نجت الإمبراطورية الرومانية الشرقية، التي كانت القسطنطينية (إسطنبول حاليًا) عاصمتها، من الغزو. وفي سنة 527م أصبح جستنيان الأول حاكمًا على الإمبراطورية الشرقية وقد طبقت مجموعته في القانون الروماني بصفةٍ أساسية هناك. وفي أوروبا الغربية، اندثرت، وبصورة تدريجية، معظم النظم القانونية والفكرية التي طوَّرها الرومان.
وبالرغم من ذلك، بقي القانون الروماني في الغرب أساسًا يقوم عليه القانون الكنسي وهو النظام القانوني الذي طورته الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. فقد كان معظم الأوروبيين، إبان القرون الوسطى، على المذهب الكاثوليكي. ولذا، كان للقانون الكنسي تأثير كبير في حياتهم.
كان للقبائل الجرمانية التي أطاحت بالإمبراطورية الرومانية الغربية مجموعاتها القانونية التي جلبتها إلى المناطق التي قامت بفتحها. غير أن هذه المجموعات لم تكن متطورة مقارنة بالقانون الروماني، فقد كانت تتكون أساسًا من قوائم تعدد الغرامات المقررة بالنسبة لجرائم محددة،كسرقة ثور الجار أو كلبه.
خلال القرن التاسع الميلادي طوَّر الأوروبيون نـظامًا سياسيًا عسكريًا عُرِف باسم نظام الإقطاع، وحسب نظام الإقطاع، كان الناس يرتبطون برابطة الولاء للإقطاعي بدلاً من الارتباط بحكومة مركزية. وكان الإقطاعي يطبق القانون في إقليمه ويمنح الحماية للأفراد الذين يخدمون في جيوشه ويعيشون على أرضه ويعملون فيها. وكان النظام القانوني في العصور الوسطى يستند بشكل كبير إلى هذه العلاقة القائمة بين الإقطاعيين والأفراد الذين يعتمدون عليهم.
ويبين القانون الإقطاعي على وجه التحديد الواجبات المفروضة على الناس تجاه الإقطاعي الذي يتبعون له. ولم يكن باستطاعة أي إقطاعي المطالبة بأكثر مما يقره القانون. لذلك،كان من حق الناس رفض أية مطالب يتقدم بها الإقطاعي خارج حدود القانون. وقد استند الأوروبيون، في وقتٍ لاحقٍ، إلى هذا المبدأ في مقاومة الملوك الذين كانوا يطالبون بسلطات واسعة. ومن ثم، فقد أدى هذا المبدأ دورًا مهمًا في النضال من أجل الديمقراطية في أوروبا.
وظل القانون الإقطاعي القانون الأساسي في أوروبا الغربية حتى القرن الرابع عشر الميلادي تقريبًا. وفي هذا التاريخ، بدأ الأوروبيون الغربيون ينشئون أنظمة قانونية أفضل. وبالرغم من ذلك، اختلف هذا التطور اختلافًا كبيرًا بين بلدان القارة الأوروبية والجزر البريطانية.
التشريع الإسلامي. في النصف الأول من القرن السادس الميلادي بُعث إمام المرسلين محمد بن عبدالله ³ في مكة المكرمة نبيًا ورسولاً إلى الناس كافة. وأنزل الله عليه القرآن وحيًا على مدى ثلاثة وعشرين عامًا. وقد حدّد القرآن بالنص، كما رسمت السنة بالقول والفعل والتقرير، منهاج حياة المسلمين في الأخلاق الروحية والنظم القانونية، بقواعد كاملة التناسق بين مبادئها الكلية، وتفاصيلها الجزئية بإحكام وإعجاز، ووجّه بها الرسول ³، وعلماء الشريعة وفقهاؤها من بعده من الصحابة والتابعين ومن تلاهم، حياة الناس في الجزيرة العربية، وأقاموا على أساسها مجتمعًا إسلاميًا منظمًا وقويًا. وحمل المجاهدون الشريعة الإسلامية معهم في فتوحاتهم شرقًا في آسيا وشمالاً حتى أطراف أوروبا الشرقية (الدول البيزنطية ـ تركيا) وغربًا في شمال إفريقيا حتى أطراف أوروبا الغربية (الأندلس ـ أسبانيا)، وطبقوها في تلك المناطق، حتى أصبحت الشريعة الإسلامية مصدرًا للقيم الأخلاقية، وأساسًا للنظم القانونية فيما يعرف حاليًا بالدول العربية والإسلامية منذ القرون الهجرية الأولى وحتى الآن. انظر: الإسلام.
التطورات في القارة الأوروبية. خلال القرن الحادي عشر، بدأ اقتصاد أوروبا الغربية في النمو بشكل سريع. وازداد حجم التجارة والصناعة، مما أدى إلى الحاجة إلى قوانين أكثر تعقيدًا وتنوعًا من القانون الإقطاعي. وكان من رأي المفكرين أن القانون الروماني يمكنه سد هذه الحاجة. فقد كانت جامعة بولونيا في شمالي إيطاليا، التي نشأت في القرن الثاني عشر الميلادي تقريبا، تدرِّس مبادئ القانون المدني لجستنيان لطلاب القانون الوافدين إليها من عدة مناطق في أوروبا. وقد اتسع نطاق الاهتمام بهذه المجموعة فوصل إلى جامعات أوروبية أخرى. ونتيجة لذلك، أخذ القانون الروماني يحل تدريجيا محل القانون الإقطاعي في جميع أرجاء القارة الأوروبية.
التطورات في بريطانيا. في الوقت الذي بدأ فيه القانون الروماني ينتشر خلال القرن الثالث عشر الميلادي بطول القارة الأوروبية،كانت إنجلترا تملك نظامًا قانونيًا راسخًا وموحدًا. تطور النظام القانوني في إنجلترا خارج محاكم البلاد. فقد درجت المحاكم الإنجليزية على إصدار قراراتها استنادًا إلى أعراف الشعب الإنجليزي. غير أن الأعراف تختلف من منطقة إلى أخرى. ولهذا، فالقضايا المتشابهة كثيرًا ماكان يحكم فيها بطريقة متباينة في مناطق مختلفة. ومع ذلك، شرع ملوك إنجليز أقوياء، في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي في إقامة نظام محاكم ملكية يمتد اختصاصها إلى جميع أرجاء البلاد. وبهذه الطريقة، سرعان ما أنشأت هذه المحــاكم مجموعة من قــواعد القانون العرفي، أي القواعد التي تطبق بالقدر نفسه في أي مكان من إنجلترا. وكان في مقدور القضاة تعديل القانون، ولكن أي تعديل كهذا كان ينصرف أثره إلى جميع محاكم القانون العرفي.
وبتطور القوانين العرفية، تمخَّص عنها كثير من السوابق القضائية التي تحد من سلطات الحكومة، وتحمي حقوق الشعب. وقد كان من نتيجة هذه السوابق القضائية أن أصبح كل الشعب، بما في ذلك الملك خاضعًا للقانون. كذلك، تطور إلى جانب القانون العرفي نظام قضائي منفصل عُرف باسم محاكم العدالة. ففي العصور الوسطى، كان من لا يظفرون بتعويض في محاكم القانون العرفي يلجأون إلى رئيس القضاء لإنصافهم. وكان رئيس القضاء، وفيما بعد مساعدوه في محكمة العدالة، يبنون قراراتهم على أساس مبادئ العدل، أي على أساس العدالة الأخلاقية. وفي الوقت المناسب، أصبحت هذه المبادئ قواعد ثابتة. وما زالت قواعد العدالة منفصلة عن قواعد القانون العرفي.
والنظام القانوني الإنجليزي هو الأساس الذي يرتكز عليه قانون المملكة المتحدة، باستثناء أسكتلندا. ويقوم القانون الأسكتلندي على أساس الجمع بين القانون الروماني والعرف الإقطاعي. وبعد أن تحولت أيرلندا إلى النظام الجمهوري استمرت في تطبيق نظام مماثل للنظام الإنجليزي. انظر: المملكة المتحدة.
أولى مجموعات القوانين الحديثة. بنهاية القرن السادس عشر، كان القانون الروماني مطبقًا في معظم مناطق أوروبا. ولكن، حظيت إنجلترا وحدها بنظام ملكي قوي إلى الحد الذي مكّنها من إنشاء نظام قانوني موحد. وقد وُضعت مجموعات قوانين في دول أخرى تولت تطبيقها أساسًا حكومات محلية. واختلفت هذه المجموعات بشكل كبير من منطقة إلى أخرى في الدولة الواحدة. وشرع كثير من ملوك أوروبا مع بداية القرن السادس عشر في تشكيل حكومات مركزية قوية. ولتحقيق هذه الغاية، قام هؤلاء الملوك بتجميع المجموعات المحلية المتنوعة في بلادهم في مجموعات قومية، وهو تطور عُرف باسم حركة تجميع القوانين. بلغت حركة تجميع القوانين ذروتها في ظل الحاكم الفرنسي نابليون بونابرت. ففي القرن التاسع عشر الميلادي، عيّن نابليون لجنة من علماء القانون لتحويل القانون الخاص الفرنسي بكامله إلى مجموعة قوانين محكمة على التفكير المنطقي السليم. ومجموعة القوانين الجديدة المسماة مجموعة القوانين المدنية أو قوانين نابليون تركيبة جمعت بين القانون الروماني، والأعراف الفرنسية، والفلسفة الديمقراطية. وقد بدأ سريانها في سنة 1804م، وأصبحت منذ ذلك الحين مجموعة قوانين فرنسا الرئيسية في القانون الخاص. وأضحت هذه المجموعة، أيضا، نموذجا احتذته مجموعات القوانين الخاصة في معظم الدول التي تأخذ بنظام القانون المدني، ولذلك ما زال القانون الروماني الذي تضمنته قوانين نابليون مؤثرا في حياة الناس.
القانون الإنجليزي في المستعمرات. حين استعمر المستوطنون الإنجليز بلادًا مثل: الولايات المتحدة، وأستراليا وأجزاء من إفريقيا، استمروا في تطبيق القانون الإنجليزي. كان كثير من الزعماء في المستعمرات من رجال القانون الذين درسوا القوانين العرفية الإنجليزية. وقد أخلص هؤلاء الرجال، على وجه الخصوص، لمبادئ القوانين العرفية التي تضع حقوق الشعب فوق إرادة الملك. ولهذا، عندما كانت إحدى هذه المستعمرات تظفر باستقلالها، كانت القوانين العرفية تقف قوة دافعة عند صياغة دستورها الجديد. ومع ذلك، أقرت الدول المستقلة حديثًا الأفكار الجوهرية لنظام القانون العرفي ولم تقر هذا النظام بكامله. فكثير من جوانب القانون العرفي لم يكن عمليًا بالنسبة للأمم الجديدة التي أخذت في الاتساع بشكل مستمر. وبالتحديد، لم يكن قانون الملكية الإنجليزي ملائمًا للولايات المتحدة. فالأراضي مثلا قليلة في إنجلترا، الأمر الذي حمل القانون على فرض قيود ثقيلة على عملية نقل الملكية من مالك إلى آخر. غير أن كثيرًا من الأراضي في الولايات المتحدة لم يكن مستوطنًا،كما أن الأمة ما فتئت توسع من حدودها بصورة مستمرة. ولضمان ازدهار الأمة،كان من المتعين أن يكون الناس أحرارًا في شراء الأراضي وبيعها. ولهذا، بدأ قانون الملكية الأمريكي بالتركيز على الحقوق والالتزامات المتعلقة بالتصرفات الناقلة لملكية الأراضي، ونُبذت القوانين الإنجليزية التي تقيد مثل هذه التصرفات.
وتنهض على أساس النظام الإنجليزي جميع النظم القانونية في أستراليا، وكندا ـ عدا كويبك ـ والهند، وماليزيا، ونيوزيلندا، والولايات المتحدة ـ عدا لويزيانا ـ وكذلك عدد كبير من الدول الإفريقية والكاريبية. غير أن هذه النظم تطورت بطرق مختلفة حسب ما تمليه حاجات كل دولة وأعرافها. انظر: النظام القانوني الأسترالي.