علم الآثار

 الدراسة العلمية لمخلّفات الحضارة الإنسانية الماضية. ويتحرى الآثاريون حياة الشعوب القديمة، وذلك بدراسة مخلفاتها. وتشمل تلك المخلفات أشياء مثل: المباني والقطع الفنية، والأدوات والعظام والخزف. وقد يقوم علماء الآثار باكتشافات مثيرة، مثل اكتشاف قبر يغص بالحلي الذهبية، أو بقايا معبد فخم في وسط الأدغال. ومع ذلك فإن اكتشاف قليل من الأدوات الحجرية أو بذور من الحبوب المتفحمة، ربما يزيح الستار بشكل أفضل عن جوانب كثيرة من حياة تلك الشعوب. واكتشاف أنواع الأكل التي كان النّاس يتناولونها في الأزمنة الغابرة، يجعلنا ندرك أوجه الشبه بين حياة أولئك القوم وحياتنا الحالية. وما يكتشفه عالم الآثار، بدءًا من الصروح الكبيرة وانتهاء بالحبوب، يسهم في رسم صورة عن معالم الحياة في المجتمعات القديمة. إن البحث الآثاري هو السبيل الوحيد المساعد على استنطاق أوجه الحياة في المجتمعات التي وُجدت قبل اختراع الكتابة منذ خمسة آلاف عام تقريبًا. كما أن البحث الآثاري نفسه يشكِّل رافدًا مهمًا في إغناء معلوماتنا عن المجتمعات القديمة التي تركت سجلات مكتوبة. ويُعدُّ علم الآثار في القارة الأمريكية، فرعًا من الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)؛ وهي دراسة الجنس البشري وتراثه الفكري والمادي. ويرى علماء الآثار في أوروبا أن عملهم هذا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بميدان التاريخ، غير أن علم الآثار يختلف عن علم التاريخ من جهة أن المؤرخين يدرسون، بصورة رئيسية مسيرة الشعوب استنادًا إلى السجلات المكتوبة.
يتطلع علماء الآثار إلى معرفة الكيفية التي تطورت بها الحضارات، وإلى معرفة المكان والزمان اللذين حدث فيهما هذا التطور. وكذلك يبحث هؤلاء ـ شأنهم شأن دارسي العلوم الاجتماعية ـ عن أسباب التغيرات الأساسية التي جعلت الناس في العالم القديم، يتوقفون عن الصيد ـ مثلاً ـ ويتحولون إلى الزراعة. ويطوِّر آثاريون آخرون نظريات تتعلق بالأسباب التي حدت بالناس لبناء المدن وإقامة الطرق التجارية. وبالإضافة إلى ذلك يبحث بعض علماء الآثار عن الأسباب الكامنة وراء سقوط المدنيات السابقة، كحضارة المايا في أمريكا الوسطى، وحضارة الرومان في أوروبا.

ماذا يدرس علماء الآثار

يدرس الآثاريون أي دليل يمكن أن يساعدهم على فهم حياة الناس الذين عاشوا في الأزمنة القديمة. وتتراوح الأدلة الأثرية بين بقايا مدينة كبيرة، وقلة من فلَق (قطع) الحجارة، التي تركها أحد الذين كانوا يصنعون الأدوات الحجرية منذ أزمان بعيدة.
إن الأنواع الثلاثة الأساسية للدليل الأثري هي: 1- المعثورات المصنوعة 2- الظواهر 3- المعثورات الطبيعية. أما بالنسبة إلى المعثورات المصنوعة، فهي تلك المواد التي صنعها الإنسان ويمكن أن تنقل من مكان إلى آخر دون إحداث تغيير على مظهرها. وهي تشتمل على مواد مثل النّصال والقدور والخرز. كما يمكن أن تشتمل ـ بالنسبة إلى مجتمع ذي تاريخ مكتوب ـ على الألواح الطينية وعلى سجلات أخرى مكتوبة. أما الظواهر فتتألف بصورة رئيسية، من البيوت والمقابر وقنوات الري، ومنشآت عديدة أخرى، قامت ببنائها الشعوب القديمة. وخلافًا للأدوات، فإنه لا يمكن فصل الظواهر عن محيطها، دون أن يحدث تغيير في شكلها. أما المعثورات الطبيعية، فهي المواد الطبيعية التي توجد جنبًا إلى جنب مع الأدوات والظواهر. وتكشف هذه المعثورات طريقة تفاعل الناس في العصور القديمة مع محيطهم. وتشتمل المعثورات الطبيعية ـ على سبيل المثال ـ على البذور وعظام الحيوانات.
ويُطلق على المكان الذي يضم الدليل الأثري اسم الموقع الأثري. ولفهم سلوك الناس الذين شغلوا موقعًا أثريًا، لابدّ من دراسة العلاقات بين الأدوات المصنوعة والظواهر والمعثورات الطبيعية، التي اكتشفت في ذلك الموقع الأثري. فمثلاً اكتشاف رؤوس رماح حجرية قرب عظام نوع من الجواميس المنقرضة في موقع ما في ولاية نيو مكسيكو، يبين أن تلك الجماعات البشرية المبكرة، كانت تصطاد الجواميس في تلك المنطقة.

كيف يجمع علماء الآثار المعلومات

يستخدم علماء الآثار تقنيات ووسائل خاصة لجمع الدليل الآثاري جمعًا دقيقًا ومنهجيًا، ويحتفظون بسجلات تفصيلية عن المعثورات الأثرية، لأن التَّنقيب الآثاري المفصل يتلف البقايا الأثرية موضع البحث.
تحديد الموقع. تحديد الموقع الأثري هو الخطوة الأولى، التي يجب على عالم الآثار القيام بها. وربما تكون المواقع الأثرية موجودة فوق سطح الأرض، كما قد تكون تحت سطح الأرض، أو تحت الماء. وتشتمل المواقع الموجودة تحت الماء على سفن غارقة، أو مدن بأكملها غمرتها المياه نتيجة تغيرات طرأت على سطح الأرض أو على مستوى الماء.
وقد يتم تحديد بعض المواقع الأثرية بسهولة، لأنها تُشاهَد بالعين المجردة، أو يمكن تعقب أثرها من خلال الأوصاف التي وردت عنها في القصص القديمة، أو السجلات التاريخية الأخرى. وتشمل مثل هذه المواقع الأهرامات في مصر، ومدينة أثينا القديمة في اليونان. وهناك مواقع أثرية، أقل وضوحًا اكتشفها ـ بمحض الصدفة ـ أناس غير آثاريين، فمثلاً اكتشف أربعة أطفال سنة 1940م كهف لاسو، في الجنوب الغربي من فرنسا، وذلك أثناء بحثهم عن كلبهم. ووُجدت في هذا الكهف رسوم جدارية تعود إلى ما قبل التاريخ. وقام علماء الآثار بالعديد من الاكتشافات المهمة، وبحثوا دون كلل وعلى امتداد سنوات طويلة، عن موقع معين أو نوع ما من المواقع. بهذه الطريقة اكتشف عالم الآثار الإنجليزي هوارد كارتر، في عام 1922م القبر المليء بالكنوز الذي يخص الملك المصري القديم توت عنخ آمون.
يستخدم علماء الآثار مناهج علمية للعثور على المواقع الأثرية. وكانت الطريقة التقليدية لاكتشاف جميع المواقع الأثرية في منطقة ما، تتم من خلال المسح سيرًا على الأقدام. وكان الآثاريون ـ عندما يستخدمون هذه الطريقة ـ يتباعد بعضهم عن بعض بمسافات معينة، ويسيرون في اتجاهات مرسومة. وكان كل فرد يبحث عن الدليل الآثاري، وهو سائر إلى الأمام. ويستخدم الآثاريون هذه الطريقة عندما يرغبون في تمييز المنطقة، التي تضم مواقع أثرية عن تلك التي لا يوجد فيها مثل هذه المواقع. فمثلاً يمكنهم استخدام هذه الطريقة، للتأكد من أن المواقع الأثرية لمنطقة معينة موجودة في قمم التلال وليس في الوديان.
ويتَّبع علماء الآثار طرقًا علمية للمساعدة على كشف المواقع الأثرية الموجودة تحت السطح. فالتصوير الجوي، مثلاً، يُظهر اختلافات في نمو النباتات التي تشير بدورها إلى وجود دليل آثاري. فالنباتات الأطول في بقعة من الحقل قد تكون مزروعة فوق قبر قديم، أو فوق قناة للري. أما النباتات الأقصر الموجودة في بقعة أخرى من الحقل، فقد تكون مزروعة في أرض ضحلة فوق عمارة قديمة أو طريق. وبالإضافة إلى ذلك تستخدم كواشف معدنية، لمعرفة ما إذا كانت هناك أدوات معدنية، سبق أن دُفنت في الأرض على عمق لا يزيد على 180سم. مسح الموقع. أول مرحلة من مراحل الدراسة التي يقوم بها الآثاريون لموقع ما، هي وصف هذا الموقع. فيسجل هؤلاء ملاحظات تفصيلية حول مكان الموقع، ونوع الدليل الآثاري الشاخص على سطحه. كما يلتقطون صورًا لهذا الموقع.
ويقوم الآثاريون برسم خرائط لمعظم المواقع الأثرية التي يتم اكتشافها. ويعتمد نوع الخريطة المرسومة على أهمية الموقع وأهداف الدراسة ومقدار الوقت والمال المتوافرين. ويَعْمد هؤلاء ـ في بعض الأحيان ـ إلى رسم خرائط مبسطة بعد أن تتم عملية قياس الأبعاد، سواء بالخطوات أو باستخدام شريط القياس. وتستخدم في حالات أخرى، أدوات خاصة لمسح الموقع الأثري بعناية، ولرسم خرائط تفصيلية له.
وبعد رسم الخريطة يجمع العلماء بعض الملتقطات الموجودة على سطح الموقع الأثري. ثم يقومون بتقسيم السطح إلى مربعات صغيرة، ودراسة كل مربع على حدة. وبعد ذلك يسجلون على الخريطة المواضع التي وجدت فيها الأدوات. ويمكن أن تُقدِّم لنا أماكن الملتقَطات السطحية معلومات عن زمان وكيفية استخدام الموقع.
تنقيب الموقع. ينقب الآثاريون بحذر بحثًا عن المواد المدفونة في عملية تدعى بالتنقيب الآثاري، وتعتمد طريقة التنقيب الآثاري جزئيًا على نوع الموقع. فمثلاً يمكن للآثاريين الذين يعملون في كهف، أن يُقسِّموا أرضية الكهف والبقعة الموجودة أمامه إلى وحدات على شكل مربعات صغيرة. ومن ثم ينقبون في كل وحدة على انفراد. وقد يحفر الآثاريون، الذين يعملون في رصيف معبد، خندقًا أمام الرصيف، ومن ثم يمدون الخندق نحو الأرض المجاورة للرصيف. وفي المواقع الكبيرة يمكن حصر التنقيب في أجزاء معينة من الموقع، كما أن هناك اعتبارات أخرى تقرر في الأغلب منهج التنقيب الآثاري، مثل المناخ وتربة الموقع.
وتتباين الأدوات التي تستخدم في الحفريات بين الجرَّارات والآليات الثقيلة الأخرى والمحافير الصغيرة والفُرش. وفي بعض الحالات يقوم الآثاري بغربلة التربة بغربال سلك للحصول على المعثورات الصغيرة. وفي حالات أخرى يقوم بتحليل التربة في المختبر، لاكتشاف البذور وحبوب اللقاح أو أية تحولات كيميائية، نتجت عن المخلفات البشرية.
العمل تحت الماء. يستخدم الآثاريون الذين يعملون تحت الماء طرقًا عديدة، تم اقتباسها من علم الآثار الأرضي. وقد يكشف التصوير الجوي، فوق مياه صافية المعالم الرئيسية لموانئ أو مدن مغمورة. ويساعد استخدام المسح السوناري، الذي يعتمد على الموجات الصوتية على كشف المواد المغمورة تحت الماء. ويستخدم الغواصون، أيضًا أجهزة كشف معدنية خاصة بكشف المواد المعدنية. ويمكن رسم الخرائط التصويرية للمواقع من الغواصات، أو من قِبل الغواصين الذين يحملون آلات للتصوير تحت الماء. ويعمل الآثاريون في مواقع تحت الماء، وهم داخل حجرات عازلة للضغط، وصالحة للعمل تحت الماء. وتُستخدم البالونات لرفع المعثورات الكبيرة إلى سطح الأرض بغية دراستها بصورة أوسع ودقة أكثر.
تسجيل الدليل الآثاري والاحتفاظ به. يقوم علماء الآثار بوصف وتصوير وإحصاء المعثورات التي يجدونها. ثم يقومون بتصنيفها إلى مجموعات وفقًا لأنواعها ومواقعها. فمثلاً يُحتفظ بالقطع الفخارية، التي تسمى أحيانًا الفِلَق أو الكِسَر الخزفية، من كل وحدة من وحدات التنقيب، ومن كل طبقة فيها، في مجموعات منفصلة، ثم تنقل إلى المختبر الميداني، لتنظف وتدوَّن عليها المعلومات الخاصة بالوحدة والطبقة التي جاءت منها. ويجب أن تبذل عناية فائقة، في المختبر الميداني، للمحافظة على الأشياء المصنوعة من مواد كالمعدن والخشب. فمثلاً يجب إزالة الصدأ عن الأشياء المعدنية دون أن يؤدي ذلك إلى أي تخريب في سطحها. أما المواد الخشبية المشبعة بالماء، فقد تتشقق أو تفقد شكلها عندما تتعرض للهواء، ولذلك يجب الاحتفاظ بها رطبة إلى حين يتمكن الاختصاصيون، الذين يطلق عليهم المرممون، من صيانتها.

كيف يفسر علماء الآثار المعثورات الأثرية

يتبع الآثاريون ثلاث خطوات أساسية في تفسير الدليل الذي يعثرون عليه وهي: 1- التصنيف 2- التأريخ 3- الدراسة والتحليل.
التصنيف. يمكن لعلماء الآثار تفسير المعثورات الأثرية، إذا ما استطاعوا معرفة أنماط انتشار الأدوات زمانًا ومكانًا. وللوصول إلى هذه الأنماط يجب عليهم أولاً تصنيف الأدوات في مجموعات تحوي كل مجموعة معثورات متشابهة. والنظامان الأساسيان للتصنيف هما: النوعي والتتابعي (التتابع الطرزي).
التصنيف النوعي. تصنف المواد ضمن مجموعات حسب أشكالها، وطرق صنعها، ووظائفها. وتدعى كل مجموعة من هذه المعثورات نوعًا. فمثلاً تُمثِّل جميع القدور الخزفية المتشابهة التي يعثر عليها في موقع واحد نوعًا واحدًا، في حين تُمثِّل قدور أخرى متشابهة من موقع آخر نوعًا آخر.
التصنيف التتابعي (التتابع الطرزي). ترتب المواد ذات النوع الواحد كلها في سلسلة تعكس التغيرات في الطراز. وهذه التغيرات إما أن تكون قد حصلت تدريجيًا مع مرور الزمن، أو نتيجة انتشار حضارة منطقة في مناطق أخرى. وفي حالات كثيرة يجب معرفة عمر المواد لتحديد المادة الأولى والأخيرة في السلسلة. التأريخ. لعلماء الآثار طرق مختلفة لتحديد أعمار المعثورات القديمة ويمكن تقسيم هذه الطرق إلى نوعين أساسيين هما: 1- التأريخ النسبي 2- التأريخ المطلق.
التأريخ النسبي. محاولة معرفة قِدم بعض المعثورات بالنسبة لبعضها الآخر. ولهذا فإن طريقة التأريخ النسبي تقدم مقارنات ولا تقدم تواريخ حقيقية. فمثلاً يستطيع علماء الآثار تحديد الأعمار النسبية للعظام التي يعثرون عليها في موقع ما، من خلال قياسهم لما تحتويه هذه العظام من الفلور، ذلك لأن الفلور في المياه الجوفية يحل محل عناصر أخرى في العظام ويزداد بمرور الزمن. وبالتالي فإن العظام الأقدم عمرًا هي تلك التي تحتوي على كمية أكثر من الفلور.
التأريخ المطلق يحدد عمر المعثور بالسنوات. وهناك طرق عديدة للتأريخ المطلق. والطريقة التي تستخدم في كل حالة ترتكز بصورة رئيسية على نوعية المادة التي يحدد تأريخها.
والطريقة الأوسع استخدامًا لتحديد تأريخ بقايا النباتات القديمة أو الحيوانات أو الكائنات البشرية هي التأريخ بالكربون المشع . وتعتمد هذه الطريقة على حقيقة مفادها أن الكائنات الحية كلها تمتص باستمرار نوعين من ذرات الكربون، وهما الكربون 12 والكربون 14 . وتسمى ذرات الكربون 14 أيضًا بالكربون المشع ، وهي ذرات غير مستقرة، وتتحول إلى ذرات نيتروجينية. ولذلك فعندما يموت كائن ما فإن نسبة الكربون 14 إلى الكربون 12 تتناقص بدرجة معينة لتصل إلى نسبة معروفة. ونتيجة لهذا يستطيع علماء الآثار حساب عمر عينة ما عن طريق قياس كميات الكربون 12 والكربون 14 المتبقية فيه. وتعد الطريقة التقليدية المتبعة في قياس الأعمار دقيقة لحساب أعمار الكائنات التي تعود إلى 50000 سنة. أما التقنية الأحدث التي تستخدم الجهاز الذي يُعرف بمعجل الجسيمات ، فهي تعد طريقة دقيقة لحساب أعمار الكائنات التي يصل عمرها إلى 60000 سنة. وهذا ينطبق أيضًا حتى على أصغر العينات. انظر: الكربون المشع ؛ معجل الجسيمات.
يستخدم علماء الآثار تأريخ الأرجون ـ بوتاسيوم لإيجاد أعمار تكونات صخرية معينة تحوي مواد أثرية. وتحتوي هذه الصخور على البوتاسيوم 40 المشع، الذي يتحول إلى غاز الأرجون 40 بنسبة ثابتة. ويقوم العلماء بقياس كمية كل عنصر موجود ثم احتساب عمر الصخرة. وقد استخدمت هذه الطريقة لتأريخ تكونات صخرية وعظام وأدوات وُجدت بشرقي إفريقيا. وقد وُجِدَ أن عمر الصخرة حوالي مليون وثلاثة أرباع المليون سنة مما يشير إلى أن العظام والأدوات أيضًا من العمر نفسه.
وأفضل طريقة معروفة لتأريخ الخشب هي التأريخ بحلقات الأشجار . وتقوم هذه التقنية على احتساب حلقات النمو السنوية الظاهرة على المقاطع العرضية للأشجار المقطوعة. ويقوم علماء الآثار بمطابقة نموذج حلقات شجرة قديمة، يُعثَر عليها في موقع ما، مع حلقات تلك المواد الخشبية القديمة لتحديد عمر الموقع. ويعتبر التأريخ بحلقات الأشجار هو الأكثر دقة في كافة مجالات التأريخ، ولكنه يُستخدم فقط مع المواد الخشبية التي لا يتجاوز عمرها حوالي 8000 سنة. الدراسة والتحليل. يقوم علماء الآثار بدراسة الأدوات والظواهر وتحليلها بغية الحصول على معلومات مثل: كيف صنعت الأدوات وأين استخدمت. وفي بعض الأحيان يحصل العلماء على معلومات من خلال التجربة المباشرة. ففي أواسط الثمانينيات من القرن العشرين قام آثاريون من كمبردج بإنجلترا بإعادة بناء سفينة إغريقية كلاسيكية وتسمى تريريم وأبحروا بها. وبهذه الطريقة تعلموا الكثير عن صناعة السفن الإغريقية وفن الملاحة في العصور القديمة. وتساعد الأدوات والظواهر على تفسير الحياة الاجتماعية التي كانت قائمة في الأزمنة القديمة. فحجم البيوت يمكن أن يبين عدد الناس الذين كانوا يعيشون في بيت واحد. وتدل كمية الأحافير التي يُعثر عليها في أحد القبور وقيمتها، على الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الشخص المدفون.
أما تقويم المعثورات الطبيعية، فيكشف عن معلومات، مثل نوع الطعام الذي كان الناس يتناولونه وما إذا كانوا ينتجون المحاصيل أو يجمعون النباتات البرية. ويمكن للمعثورات الطبيعية أن تكشف أنماط الهجرات القديمة. فوجود بذرة من الحبوب غريبة عن المنطقة مثلاً، يمكن أن يكشف عن كيفية وتاريخ انتقال المواد من مكان إلى آخر.
وقد يقوِّم الآثاريون الدليل الأثري بمساعدة متخصصين في حقول أخرى. فعلماء الحيوان يساعدون في التعرف على عظام الحيوانات، وطرق الذبح التي كانت سائدة. كما يقوم علماء النبات بتحليل البذور، ليحصلوا على معلومات حول النشاطات الزراعية القديمة. ويعمل مع الآثاريين أيضًا متخصصون آخرون مثل الجيولوجيين والمعماريين والمهندسين. ويعمد المتخصصون في بعض الحالات إلى تشغيل أجهزة الحاسوب التي تيسّر عملية التقويم وتعجّل بها إلى حد كبير.

نبذة تاريخية


تواريخ مهمة في علم الآثار

1797م كشف عالم الآثار البريطاني جون فرير أدوات صوانية في هكسن ـ بإنجلترا، وأعلن أنها تعود إلى فترة ما قبل العالم المعاصر.
1853-1854م كشفت فترة جفاف عن قرى بحيرة سويسرية يعود تاريخها على الأقل إلى نحو 000,5 سنة.
1870م بدأ رجل الأعمال الألماني هنريش شليمان بعمليات تنقيب عن الآثار في موقع طروادة الواقعة في تركيا.
1879م كشف عن وجود رسوم جدارية لما قبل التاريخ بكهف في ألتاميرا بأسبانيا.
1894م كشف فليندرز بيتري البريطاني عن المقبرة الملكية في نقادة الواقعة قرب قوص بمصر.
1900م بدأ عالم الآثار البريطاني السير آرثر إيفانز تنقيب مدينة كنوسوس، عاصمة الحضارة المينوية في كريت.
1922م أثار هوارد كارتر البريطاني اهتمامًا عالميًا بعلم الآثار حينما كشف قبر الملك توت عنخ آمون في مصر.
1925م أثبت الكشف عن نصال صوانية في فُلْسُم بنيو مكسيكو بالولايات المتحدة أن الإنسان كان يعيش في أمريكا الشمالية منذ آلاف السنين.
1939م اكتشف بازل براون البريطاني بقايا سفينة تضم كنز أنجلو ـ سكسوني في ستن هو قرب إبسويتش بإنجلترا.
1952م قادت الآثارية البريطانية السيدة كاثلين كينيون طومسون بعثة أثارية في أريحا بفلسطين أثبتت أنه كان بها أحد أقدم المواقع الاستيطانية في العالم.
1964-1975م كشفت عمليات الاستكشاف الأثري في إيبلا ـ الواقعة قرب مدينة حلب السورية ـ عن وجود مملكة قديمة، ازدهرت وكانت مركزًا تجاريًا وثقافيًا قبل نحو سنة 2400 ق.م.
1982م انتشل علماء الآثار البريطانيون السفينة الحربية ماري روز التي بنيت عام 1500م من قاع البحر على الساحل الجنوبي لإنجلترا.
1977-1985 كشفت الحفريات التي قام بها تومس د.ديليهي في مونت فيرد بتشيلي عن أول استيطان في العالم الجديد قبل نحو 12,000 سنة
1991م اكتشف بعض متسلقي جبال الألب جثة مجمدة سليمة لرجل عاش قبل 5,000 سنة و أطلق علية اسم أوتز. فتح هذا الاكتشاف الذي تم بالمصادفة آفاقا جديدة للآثاريين لتعرف الحقبة التي سبقت العصر البرونزي.
2003م تعرضت المتاحف العراقية و بخاصة متاحف بغداد لعمليات واسعة من السلب و النهب بعد غزو الولايات المتحدة و المملكة المتحدة لدولة العراق.
البداية. تطورت فكرة دراسة الماضي، من خلال المواد الأثرية القديمة، تطورًا تدريجيًا، غير أن الاهتمام بهذا الموضوع من الدراسة ازداد في القرنين الماضيين. ففي القرن الثامن عشر الميلادي أخذ بعض الأثرياء الأوروبيين في دراسة وجمع القطع الفنية التي تعود إلى العصرين اليوناني والروماني القديمين، وسمي هذا الاهتمام بالفن الكلاسيكي جمع التحف. وكان الهدف الأول والرئيسي لهؤلاء المنقبين الأوائل البحث عن الكنوز، وجعلهم هذا الهدف يُهملون كل ما يعثرون عليه من مواد أخرى.
وخلال القرن الثامن عشر الميلادي أيضًا، بدأ علماء أوروبيون في التساؤل عن عمر الكائنات البشرية فوق سطح الأرض. وجاء اهتمامهم هذا ـ إلى حد ما ـ نتيجة لاكتشاف أدوات حجرية بدائية وُجدت إلى جانب عظام حيوانات منقرضة. وحصل العلماء أيضًا على معلومات تتعلق بالتلال الضخمة وأطلال المدن في القارة الأمريكية، التي دلت بدورها على وجود حياة بشرية قديمة فيها. كما أدرك هؤلاء أن للبشر ماضيًا يعود إلى عصور ما قبل التاريخ، غير أنهم لم يستطيعوا تحديد متى وكيف بدأ هذا الماضي.
القرن التاسع عشر. شهد القرن التاسع عشر توجهًا علميًا لدراسة الماضي، فقد قبل الاتجاه القائل بقدم وعمق حقب ما قبل التاريخ، نتيجة التقدم الذي شهدته دراسات الجيولوجيا وعلم الأحياء. ومع بداية القرن حدد الجيولوجيون أن تكوينات الصخور، قد تمت عبر عملية بطيئة مثل التعرية والنشاطات البركانية. وقد قادت الفكرة ـ التي تعرف بالاتساقية ـ معظم العلماء إلى الاعتقاد أن عمر الأرض أكبر مما كان يُعتقد. وبمنتصف القرن التاسع عشر الميلادي أصبح علم الآثار ميدانًا مستقلاً من ميادين الدراسة. وأخذت الأدلة حول إنسان ما قبل التاريخ، تتجمع بسرعة متزايدة. ومن الاكتشافات المهمة التي تعود إلى عصر ما قبل التاريخ، اكتشاف مواقع للسكن فوق بحيرة في سويسرا، ورسومات كهوف قديمة في فرنسا وأسبانيا، وجزء من جمجمة بشرية وُجدت في ألمانيا. وفي أواخر القرن التاسع عشر بدأ الآثاريون في استخدام طرق فنية في التنقيب، بحيث جعلت بالإمكان تحديد تسلسل التطور الحضاري. وأصبح العالم البريطاني فلندرز بيتري ـ نتيجة عملية التنقيب التي قام بها في نقادة، قرب قوص بمصر ـ واحدًا من الرواد الذين قاموا بالتنقيب بحثًا عن كل البقايا وليس عن الكنوز فقط. وكان من بين الذين قاموا بعمليات التنقيب، في ذلك الوقت، الدبلوماسي البريطاني أوستن هنري ليارد، الذي قام بالتنقيب في مدينة نينوى المعروفة في العراق. وكذلك رجل الأعمال الألماني هنريش شليمان، الذي قام بالتنقيب في طروادة الواقعة في تركيا.
وركَّز آثاريو القرن التاسع عشر دراستهم على الحضارة الأوروبية القديمة وحضارات الشرق الأوسط التي وصفها الكتاب الكلاسيكيون وكتاب العهد القديم. ولكنَّ الآثاريين الأمريكيين لم يعثروا على أية وثائق مكتوبة عن الحضارات التي درسوها. ولذلك فقد تحولوا تحولاً جزئيًا لدراسة الأنثروبولوجيا بغية الحصول على طرق لتفسير مكتشفاتهم فدرسوا مثلاً الأشياء التي كان معاصروهم من الهنود الأمريكيين يصنعونها، وذلك لمساعدتهم في تفسير وفهم الأحافير التي كانت المجتمعات القديمة تصنعها.
القرن العشرون. توسع ميدان علم الآثار توسعًا كبيرًا جدًا. فقد جعل اكتشاف هوارد كارتر قبر توت عنخ آمون سنة 1922م دراسة الآثار المصرية القديمة محط اهتمام عام. غير أن علماء الآثار بدأوا أيضًا باكتشاف حضارات قديمة في أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطى والصين واليابان وجنوب شرقي آسيا وغيرها من المناطق. في عام 1921م، كشف عالم الآثار السير جون مارشال، المسؤول عن مسح الآثار الهندية عن وجود مدينة هارابا القديمة، في باكستان الحالية. وفي السنة التالية، نقّب في موقع مجاور لها وكشف عن وجود مدينة أكبر منها كثيرًا وهي موهنجودارو، المستوطنة الرئيسية لحضارة وادي السند القديمة. وبهذه الاكتشافات، أمكن إرجاع بداية التاريخ المعلوم لشبه القارة الهندية لنحو 3500 ق.م. وفي أوائل القرن العشرين، استخدم علماء الآثار التتابع الطبقي والتتابع الطرزي لتأريخ معثوراتهم. وخلال منتصف القرن العشرين الميلادي ساعدت التقنيات الحديثة على تأريخ المعثورات بطرق أكثر دقة وسهولة. وأبرز هذه التقنيات هو التأريخ بالكربون المشع، الذي طوره خلال الأربعينيات من القرن العشرين الكيميائي الأمريكي ويلارد ليبي.
وبمنتصف القرن العشرين حدث تطور كبير في ميدان إنقاذ الآثار تحت الماء. ففي السابق كان التنقيب تحت الماء صعبًا ومكلفًا، ومكّن اختراع جهاز التنفس (الرئة المائية) وأجهزة الغطس الأخرى خلال الأربعينيات من القرن العشرين الغطاسين من التحرك بحرية أكثر عند حمل معدات البحث الأثري تحت الماء.
التطورات الحديثة. منذ الخمسينيات من القرن العشرين، أصبح الهدف الأول لعلماء الآثار الوصول إلى نظريات عامة لشرح التغيرات في المجتمعات البشرية التي يكشف عنها الدليل الآثاري. يبحث علماء الآثار اليوم مثلاً عن الأسباب الكامنة وراء تطور الزراعة في المكسيك حوالي 7000 ق.م. وظهور المدن في الشرق الأوسط حوالي 3000 ق.م. وكثير من علماء الآثار يضطلعون بمشروعات لدراسة مشكلة ما، ولدراسة الموقع الأثري فحسب. فخلال الستينيات من القرن العشرين الميلادي مثلاً قام عالم الآثار الأمريكي، ريتشارد ماكنيش بدراسة بقايا نباتية من مواقع كهوف عديدة في المكسيك، ليجمع الأدلة على أن الذُّرة كانت مادة تزرع وتستهلك في ذلك المكان.
وفي أستراليا، سعى علماء الآثار إلى رسم خريطة لتاريخ السكان الأصليين. وفي عام 1984م أورد الباحثون من الجامعة الوطنية الأسترالية تقريرًا تناول بقايا نباتات وشظايا فحم نباتي من قاع بحيرة جورج في كانبرا. واقترح الخبراء الذين قاموا بفحص هذا الدليل بصورة مبدئية احتمال أن يكون السكان الأصليون قد عاشوا في أستراليا قبل نحو 130000 سنة مضت، بزيادة تفوق 80000 سنة عمَّا هو مُعتقد.
وقد طوّر علماء الآثار المعاصرون أيضًا تقنيات أبحاث جديدة وباتوا يستخدمون طرق أخذ العينات استنادًا إلى مبادئ علم الإحصاء والاحتمالات. فعبر هذه الطرق، يمكن دراسة الموقع بسرعة دون الحاجة إلى عمليات تنقيب مكثفة. وقد ساعدت طرق علمية جديدة أيضًا على تسهيل اكتشاف مواقع تحت الماء. فمثلاً، صار بمقدور علماء الآثار تحديد مواضع الآثار المدفونة باستخدام جهاز القوة المغنطيسية لقياس أي اختلال طفيف في الحقل المغنطيسي للأرض. وقادت هذه الطريقة إلى اكتشاف مدينة قديمة مطمورة بعمق 6,4م تحت الأرض في إيطاليا. ومن بين الاهتمامات الرئيسية لعلماء الآثار في يومنا هذا مسألة حماية المواقع الأثرية التي لم تُدرس بعد، إذ إن كثيرًا من هذه المواقع مهدد بمشروعات البناء أو بالتوسع الزراعي أو بأشكال أخرى من مشروعات التنمية. وقد استصدرت بلاد كثيرة قوانين تهدف إلى تحديد الأماكن التي قد تكون ذات أهمية تاريخية وإلى حمايتها. ويسعى علماء الآثار على الصعيد الدولي إلى وقف عمليات البيع غير القانونية للمعثورات والقطع الأثرية. كما أنهم يعملون على حث الدول المتطورة على سن وفرض قوانين، تحرِّم استيراد الآثار بلا شهادات تصدير خاصة، يتم الحصول عليها من بلاد المنشأ. وهم يسعون أيضًا للحد من نشاطات صيادي الكنوز الذين يقومون بتخريب المواقع الأثرية وإتلافها.