الجنة


دار النعيم في الآخرة، أعدها الله تعالى للمؤمنين الموحدين من عباده الذين آمنوا به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وعملوا الصالحات، وجعلها نزلاً ومقامًا دائمًا لعباده المخلصين المتقين الذين يخافون ربهم ويخشونه والمجاهدين في سبيله بأنفسهم وأموالهم.
والجنة غيب، أخبر عنها الحق تبارك وتعالى، والحديث عنها مأخوذ من القرآن، مفصّلاً مرة وموجزًا مرات، وترد أيضًا في مواضع كثيرة من أحاديث الرسول ³، مثلها تمامًا مثل ورود ذكر النار وجهنم في مواضع كثيرة أيضًا. وبما أنها من الغيبيات فقد وجب على المؤمنين الإيمان بها والعمل من أجلها والسعي لدخولها قضاءً لما فعلوه في الدنيا وقدموه من أعمال صالحة مصحوبة بنيّة طيبة حسنة ابتغاء وجه الله وابتغاء رضوانه.
وللجنة منازل ودرجات، كلٌّ يدخل منزله ودرجته بحسب ما قدّم وجاهد وصبر وعمل من صالحات، ولا يتم ذلك إلا بعد انتهاء يوم الحشر والحساب والسؤال أمام الحق تبارك وتعالى حتى يقضي الله، ثم ينشر الحق تبارك وتعالى رحمته ويعمّ عفوه عن عباده ويحقق بعد ذلك عدله فيدخل الجنة من يدخل ويذهب إلى النار من قضى عليه ذلك.
ويقول بعض العلماء: إن رحمة الله في هذا اليوم تسبق غضبه حتى إنه ـ عز وجل ـ يحاسبهم برحمته تلك التي لولاها لما دخل أحد الجنة حتى ولو كان عمله شاهدًا على ذلك لقول الرسول ³: سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحدًا الجنة عمله، فقالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة
العيش في الجنة يختلف شكلاً ومضمونًا عما هو عليه في الدنيا، لأن الجنة هي دار الخلد والنعيم الدائم. ولا تنطبق عليها شواهد الدنيا وأفعال الحياة العامة بل هي غيب محجوب ما عرف عنه إلا ما قاله الرسول ³في الحديث القدسي قال عز وجل: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) رواه مسلم.
والسؤال عن الجنة وكيفية الحياة فيها من الأمور التي لا توصل إلى نتيجة، وليس أمرًا مهمّاً كأهمية العمل من أجلها والإعداد ليوم الحساب، لأن نعيمها مطلق الحدود والسعادة فيها تختلف كلية عن سعادة الدنيا كما قال الحق تبارك وتعالى: ﴿وإن الدّار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون﴾ العنكبوت 64
ويخبر الحق تبارك وتعالى أن كل نبي سوف يأتي على رأس أمته التي بُعث لها وأرسل فيهم. ﴿وسيق الذين اتقَوْا ربَّهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلامٌ عليكم طبتم فادخلوها خالدين ¦ وقالوا الحمد لله الذي صَدَقَنا وعده وأورثنا الأرضَ نتبوَّأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين﴾ الزمر 73،74
للجنة خزنة أي حراس من الملائكة على رأسهم رضوان عليه السلام، وكما أن للجنة حراسًا فللنار أيضًا حراس وعلى رأسهم مالك عليه السلام الذي ورد ذكره في القرآن ﴿ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون﴾ الزخرف 77
وفي الجنة أيضًا ـ كما يخبر القرآن ـ حور عين، كأمثال اللؤلؤ المكنون يتزوجهن الإنسان لكنه زواج غير ما هو معهود ومعروف، خلقهن الحق تبارك وتعالى جزاء للمؤمنين العاملين. يقول تعالى: ﴿فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جان﴾ الرحمن 56
وفي الجنة أيضًا غرف وقصور وأنهارٌ شتى فصل القرآن الحديث عنها وفصّلت السنة النبوية الوصف فيها وكلها أعدت لعباد ا المصدقين الموحدين قال تعالى: ﴿وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين﴾ آل عمران: 133
وتعريف الجنة في غير التصور القرآني قد اختلطت عليه المفاهيم وانحرفت به الآراء والتصورات، واضطربت به الأفكار وأسهمت فيه القرائح وأسهبت في تصويره العقول.
وفي القرون الوسطى في أوروبا على سبيل المثال استُغل حبُّ الناس وتوقهم إلى الجنة استغلالاً سيئًا حيث راح بعضهم يبيعون ـ استخفافًا منهم على البسطاء ـ صكوكًا عرفت في التاريخ بصكوك الغفران التي كان يشتريها عامة الناس من رهبان الكنيسة مقابل أموال وأملاك طائلة. اعتقادًا أن لهم بهذه الصكوك ضمانًا في الجنة أو مساحات في الجنة، وكانوا لا يمنحون هذه الصكوك إلا بعد تنازلات مادية ومعنوية للرهبان النصارى وقسيسيهم الذين كانوا يهيمنون على مقاليد الأمور آنذاك.
والذي يقرأ القرآن الكريم يكاد يشعر أن الجنة ذكرت في جميع الكتب المقدسة الأصلية ويعرفها كل الأنبياء والرسل وأقوامهم التابعون الحقيقيون غير الزائفين المحرِّفين وذلك من خلال استعراض القرآن لقصص الأنبياء والحكاية عنهم وعن أقوامهم، وأن مردّ هؤلاء جميعًا إلى ا تبارك وتعالى إما إلى الجنة وإما إلى النار.